مع كل ديوان للشاعر أنطوان أبو زيد يتبدى، اصرار الشاعر على الذهاب أبعد بتجربته الخاصة التي تحاور تجارب أخرى. والمسافة بين ديوانه الأول: "نبات آخر للضوء" 1986، وبين "لتخدمك عيناك الجميلتان في الهوة" الصادر حديثاً عن "دار المسار"، مسافة تعمق ونضج ضمن مقاييس تجربته نفسها. وقصيدته تواصل ابحارها في التجريد والتخفف من الكلام والترفع عن الثرثرة، الى حدود تقطع عندها امكان التواصل مع القارئ. تغلق نفسها بإحكام وقسوة وكأنها تصد القارئ وتبعده، حاجبة المعنى في جوفها الغائر الذي تتحول معه اللغة رموزاً تحتاج الى علم لفهمها واستيعابها.

إن قصيدة "لتخدمك عيناك الجميلتان في الهوة"، وشعر أنطوان أبو زيد عموماً، بحث مضن عن العلاقات الجوفية الداخلية للعالم والأشياء والأحاسيس. ما يجعل المقروء يجسد الاحساس نفسه الذي يريد له الشاعر ان يكون نحيفاً وواضح المعالم. فالأولوية عنده لجعل الدال والمدلول واحداً. فذاك ما ينهض بالقصيدة التي يتكلف أبو زيد لتحويلها نصاً يشبه الأثر، وقراءتها تشبه التنقيب. ونحسب ان لذة الشاعر في التنقيب وجلاء الأثر بين يديه، أمام عينيه، وفي ذهنه. وقصيدة أبو زيد ذهنية بامتياز، وترابطها الداخلي ذهني ايضاً، الى حدود خاصة وشخصية، وتحتاج الى قدر من الذهنية لتتبعها واختراقها. لكن ذلك لا يحول دون فتح الشاعر صفحات كثيرة من القاموس. فمفردات أبو زيد كثيرة ومعانيها لا تغادر المعجم، ولا يرهقها الاستعمال اليومي والحياتي.

إنّها لغة ثقافية، او نصيّة محضة. وعلى رغم ذلك ثمة ما هو سردي ومنطقي في قصيدة "لتخدمك عيناك الجميلتان في الهوة"، لنقرأ مثلاً: "أحزم / ثم أفك / ظلالي تحت الطريق" صفحة 61. وثمة، كذلك، ما هو طالع، من العين، إذ يكتب الشاعر رؤاه صوراً: "في أعلى الستارة / تحترق / أحلام الصوت / تصير فتاتاً / لأي ذي / جناح". ص 56. كأنما أنطوان أبو زيد لم يتمكن من تفكيك هذه الصور او ذاك المشهد، وضغطهما واقتضاب النص. ولعله فعل، انما "وصل" الى مطابقة المعنى، مع الحفاظ على قدر من السرد والمنطق والصورة... في حوارها مع القارئ. (al-Hayat Magazine Book Review Archives)